نبيه بري… «المايسترو» الذي يوازن بين النار والرماد

 نبيه بري… «المايسترو» الذي يوازن بين النار والرماد

نبيه بري… «المايسترو» الذي يوازن بين النار والرماد

علي منصور – ليبانغيت

في بلدٍ تتناوب عليه الأزمات كما تتناوب فصول السنة ، يقف نبيه بري في موقعٍ بالغ الحساسية، كمن يمشي على خيطٍ ممدودٍ بين النار والرماد.

فالنار هي اشتعال الساحات السياسية والطائفية والتهديدات الخارجية،

والرماد هو ما خلّفته الحرائق من تعبٍ وركامٍ وخيباتٍ متراكمة.

وبين الاثنين، يمارس بري دوره كـ«مايسترو» السياسة اللبنانية: لا يدع النار تلتهم ما تبقّى، ولا يسمح للرماد أن يخنق الحياة.

إنه الرجل الذي يعرف كيف يُبقي الجمر متّقداً بقدرٍ من الضوء… لا اللهيب.

في قلب العاصفة

في هذا المشهد المعلّق بين الاحتراق والاختناق، يطلّ نبيه بري من قلب العاصفة لا كناجٍ منها، بل كمن اعتاد أن يعيش داخلها.

فأربعة عقودٍ في دهاليز القرار اللبناني صاغت منه ذاكرة النظام وضميره الحذر، وجعلت من تجربته مرجعاً في فنّ الإمساك بخيوط التوازن حين تنقطع بين الآخرين.

هو «الحكيم» الذي لم يدرس الطب، لا يشيخ سياسياً، ويعرف متى يُهدّئ النيران بالماء، ومتى يوقظ من تحت الرماد جمرة الموقف، ومتى يلوّح بالعصا الدستورية لتذكير الجميع بأن في لبنان من لا يزال يقود اللعبة بالعقل لا بالصراخ.

رجل الدولة حين يغيب مفهوم الدولة

بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل في شهر تشرين الثاني من العام المنصرم، ومع اشتداد الضغوط الدولية لنزع السلاح وضبط الحدود وترسيمها ، أدرك بري أن المسألة لم تعد سياسية أو عسكرية فحسب، بل تمسّ جوهر الكيان اللبناني ودور الطائفة الشيعية في قلب النظام السياسي .

وفي الداخل، تولّت «القوات اللبنانية» إشعال موجة الفلتان الإعلامي والتحريض الطائفي، محاولةً استثمار اللحظة لتصفية الحساب مع «حزب الله»… لكنها اصطدمت بمطرقة عين التينة المرفوعة فوق رأس معراب.

سياسة النفس الطويل

من يعرف نبيه بري عن قرب يدرك أنه يتقن فنّ الانتظار بقدر ما يتقن فنّ المبادرة.

ومن يتابعه من بعيد، يكتشف الأمر ذاته.

فهو يعرف متى يختلف مع حلفائه من دون أن يصطدم، ومتى يهادن خصومه من دون أن ينكسر.

صنع لنفسه موقعاً فريداً: حليفٌ وثيقٌ لـ«حزب الله» في عزّ قوّته دون تبعية، وأخٌ أكبر له في «نكبته» دون منٍّ أو تفضّل.

هو شريكٌ في القرار والمصير، وصوتُ العقل الذي يزن الأمور بميزان الذهب.

الدبلوماسية الصامتة

حين يُحاصر البلد بالأزمات، لا يهرع بري إلى المنابر كما يفعل الآخرون، بل يمارس ما يمكن تسميته بـ«الدبلوماسية الصامتة»، مستعملاً شبكة علاقاته الممتدة من طهران إلى باريس، مروراً بالقاهرة والخليج، من دون أن يتنازل عن لبنانيّته أو يضع نفسه في موقع التابع لأي محور.

في لحظات التصعيد، يتراجع خطوةً إلى الخلف، لا خوفاً بل تقديراً لحجم المعركة، ثم يعود بخطواتٍ محسوبة حين يدرك أن الجميع وصل إلى الحائط المسدود، فيقدّم مبادرة تنقذ البلد من الجمود والفوضى.

وهكذا فعل في كل الحوارات الوطنية والاستحقاقات المفصلية التي مرّت على لبنان، ويفعل اليوم في وجه الضغوط العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية.

عقل بارد في زمن مشتعل

يتعامل بري مع المشهد السياسي كقائد أوركسترا يعرف أن نغمةً واحدةً خاطئة قد تفسد اللحن بأكمله.

لا يرفع صوته كثيراً، ولا يلوّح بالتهديد، لكنه حين يتكلّم، تتغيّر حرارة الغرف السياسية.

يحسِب كلماته كما يحسِب الجندي طلقاته في معركةٍ حاسمة، ولذلك نادراً ما أخطأ في توقيت موقفٍ أو حساب معركة.

وليس آخرها معركة قانون الانتخابات وتصويت المغتربين، حيث يخوض سمير جعجع حرباً مفتوحة على عين التينة، مهدّداً ومتوعّداً، حتى وصل به الوهم إلى الاعتقاد أنه قادر على منح مقرّ الرئاسة الثانية لأحد «المستشيعين» من رعاياه في الانتخابات المقبلة!

مدرسة في البراغماتية الوطنية

قد يختلف اللبنانيون حول كل شيء، لكنّهم يتفقون على أنّ نبيه بري هو آخر الكبار الذين حافظوا على ما تبقّى من الدولة.

ليس لأنه خالٍ من الأخطاء، بل لأنه الوحيد الذي لم يفقد البوصلة وسط فوضى العقدين الأخيرين.

يدير السياسة كما يدير القبطان سفينته وسط العاصفة: لا يصرخ، لا يضرب، بل يمسك الدفّة بثباتٍ وإدراكٍ نادرٍ للمسار.

فحين تنقسم البلاد إلى جبهات، يكون بري هو الجسر بينها.

وحين ينهار الحوار، يكون هو الطاولة البديلة.

بين الممكن والمستحيل

في لحظةٍ يتنازع فيها لبنان بين الضغوط الخارجية والانقسامات الداخلية والأزمة السياسية والاقتصادية ، يبقى نبيه بري الرجل الذي يعرف حدود الممكن والمستحيل.

حنكته ليست في المساومة بل في التوقيت، وقوته ليست في الصدام بل في القدرة على منع الانفجار.

إنه رجلٌ من طينةٍ نادرة في السياسة اللبنانية: يحترف الانتظار، ويتقن العبور، ويستثمر في العقل حين يفقد الآخرون رشدهم… وآخرهم «حكيم» معراب وزبانيته.

وكلّ ما تقدّم ينطبق على معركة تعديل قانون الانتخابات النيابية…

فلا تجرّبوه.

مقالات ذات صلة