أنس الشريف… صوتٌ مخضَّب بالكلمة حتى آخر حرف

علي منصور
لم تكن كلمات أنس الشريف مجرّد وصيّة، بل كانت نبض قلبٍ يودّع الحياة وهو متمسّك بالمبدأ والحق ، شاهراً الحقيقة في وجه الموت، متوشحًا بالكرامة حتى آخر قطرة دم.
كتبها و كان يعلم أن صواريخ الاحتلال تنتظره، وأن صوته الذي طالما أزعج القتلة سيُسكت بركام خيمته، لكنه أراد أن تكون كلماته الأخيرة أقوى من هدير الطائرات وأبقى من صدى الانفجارات.
أنس، ابن مخيّم جباليا، حمل وجع المخيمات وحلم العودة منذ أن فتح عينيه على الحياة. لم تكن عسقلان بالنسبة له مجرّد مدينة محتّلة ، بل كانت وعدًا مؤجلاً في قلبه، يردّده في كل بثّ، في كل تقرير، وفي كل جملة يقولها من تحت القصف.
عاش الفقد والوجع، وذاق مرارة الحصار، لكنه ظلّ واقفًا أمام عدسة الكاميرا، يلتقط الحقيقة من بين الشظايا، ويرسلها إلى العالم كما هي، بلا رتوش، بلا تزوير، وبلا خوف.
في وصيّته، لم يوصِ بأموال ولا بميراث، بل أوصى بفلسطين… أوصى بأطفالها الذين حرمهم الاحتلال حتى من الحلم، وأوصى بأهلها الذين يقفون على حافة الحياة والموت يزورهم كل يوم.
أوصى بابنته شام التي لم يمنحه القدر فرصة أن يراها تكبر، وبابنه صلاح الذي تمنّى أن يشتّد عوده ليكمل بعده الرسالة. أوصى بوالدته التي كانت دعواتها درعًا له في كل مواجهة، وبزوجته التي بقيت على العهد، صابرة كجذع زيتونة لا ينحني أمام العاصفة.
أنس الشريف لم يمت هاربًا، ولم يترك الميدان طلبًا للنجاة. مات ثابتًا، مبتسمًا للقدر، مطمئنًا أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. رحل جسده، لكن كلماته ما زالت هنا، وصيته تتردد في الأزقة والخرائب، بين أصوات الأطفال وبكاء الأمهات، لتقول للعالم: لا تنسوا غزة… ولا تنسوا فلسطين .
سلام عليك يا أنس… يوم حملت الكاميرا سلاحًا في وجه الاحتلال، ويوم كتبت بالدم ما عجز الحبر عن كتابته ، ويوم وقفت أمام التاريخ وقلت الحقيقة حتى وأنت تودّع الحياة.
نم قرير العين، فقد تركت وراءك وصية لا تموت، ورسالة لا تنكسر، ودمًا سيظل يضيء درب الحرية حتى تشرق شمس فلسطين.
“رحل أنس الشريف جسدًا، لكن كلماته بقيت رصاصًا في وجه الاحتلال… ودمه صار حبرًا لا يجف على صفحات فلسطين.”