السلطان “ديديه” صهرُ القصر سيّدُه… الأمر لي

علي منصور – ليبانغيت
اسمٌ في الأخبار، يتمّ التداول به كعملةٍ صعبة: “وصل ديديه… غادر ديديه”، “أُرسِل مبعوثاً رئاسياً”، “نجح… أخفق”. طرحَ معادلات ومفاهيم واقتراحات، قدّم حلولاً، استنبط مخارج، حضر أرفع اللقاءات، وسافر مع الرئيس إلى كلّ البلدان في الزيارات الرسمية. يُحمل العلمُ اللبناني، ومعه تُرفع راياتُ ديديه رحّال حيث يتقدّم الصفوف وكبريات الاجتماعات.
ففي مشهدٍ لبناني يخفق بالوجوه السياسية والأمنية، ومع تقطّع سبل الرئاسات ووقوع ما يشبه القطيعة بينها، يبرز اسم عميد لبناني متقاعد، يكاد اللبنانيون لا يتنبّهون إلى أنّ اسمه الأوّل هو “أندريه”، فتذهب الصحافة والعامّة إلى “تغنيجه” كما أراد وأرادت الرئاسة: “ديديه”.
اسمُ الدلع المحبَّب الذي تزوّج أخت الرئيس “دولي”، أصبح مقترناً بالجمهورية، ويكاد يُصدَّر بطابعٍ رسمي كمفاوضٍ معتمد لدى المقرّات، ومحاورٍ يُصغي إلى هواجس الآخرين بدقّةٍ وحرفية.
هو أحد أهمّ رجالات الظلّ في مسيرة جوزيف عون العسكرية والسياسية قبل أن يتشكّل معه إلى القصر الرئاسي في بعبدا.
لم يكن “ديديه” مجرّد ضابطٍ متقاعد أو قريب عائلي، بل كان مستشاراً أمنيًّا “مُلزِماً” و”راعيًا أبويًّا” لكلّ تحرّكات الجنرال وخطواته. كان “الخبطة الهدّارة” التي تهمس له بأسرار البلد السياسية والأمنية، بكاتم للصوت والصورة.
حمل أسرار اليرزة إلى بعبدا، وظلّ ملازمًا لقائد الجيش – ولو عن بُعد خلال رئاسة ميشال عون – في أدقّ المراحل وأكثرها حساسية، أي مرحلة “التمكين” وفقاً للأدبيات العسكرية.
تدرّج رحّال في المؤسسة العسكرية حتى رتبة عميد قبل تقاعده، وعُرف بصرامته وقبضته على الملفات الأمنية، ما جعله مطّلعًا على شبكة العلاقات المعقّدة بين المؤسسة العسكرية والأجهزة الأخرى، كما على توازنات الداخل اللبناني.
ومع تولّي جوزيف عون قيادة الجيش عام 2017، كان “ديديه” جاهزاً وحاضراً كمستشار أوّل خفي، ومساعد عائلي ضمني للدعم السريع، من موقعه في قصر بعبدا إلى جانب الرئيس السابق ميشال عون، حيث لعب دورًا خلف الكواليس في متابعة الملفات الحساسة، من التنسيق مع القوى السياسية إلى إدارة علاقة الجيش بالقوى الدولية.
ورغم غيابه عن الواجهة الإعلامية، إلا أنّ حضوره الدائم في الكواليس أكّد موقعه كشخصية موثوقة لدى الرئيس السابق ميشال عون. وساهم في إقناعه بتعيين جوزيف عون قائداً للجيش خلافاً لرغبة جبران باسيل، ثمّ عمل لاحقاً على التقرّب من الحلقة الضيّقة لحزب الله ومن النائب محمد رعد لتعبيد طريق “العائلة” إلى بعبدا.
وقعت الواقعة بين عون الأوّل وعون الثاني، وأُعلنت حربُ الإلغاء من جبران باسيل على قائد الجيش جوزيف عون بعدما اكتشف باسيل “عوارض رئاسية” على رجل العسكر ساكن اليرزة. حينها اتّهمه رئيس التيار الوطني الحر بالخيانة، وقاد معركةً ضده محاولاً تحطيم رغباته الرئاسية. وفي ذلك الوقت، سقط ديديه عسكرياً وسياسياً لدى جماعة عون وشركاه وعموم آل التيار الوطني الحر.
ومع وصول جوزيف عون إلى رئاسة الجمهورية مطلع السنة، خرج “ديديه” من الظلّ إلى العلن. لم يعد دوره يقتصر على الاستشارة الأمنية والعمل في الكواليس، بل بات مستشاراً بمرسوم جمهوري، شريكاً فاعلاً، متدخلاً، ضارباً طوقًا حول الرئيس، ومتحكّماً بكلّ التفاصيل.
لحظة وصول عون الثاني رئيساً، لم يتردّد فخامته في إسناد أهمّ الحقائب الأمنية والسياسية إلى صهره، فعيّنه مفوّضاً عاماً على كلّ الشؤون. لكنه اصطدم بخلافاتٍ بدأت ملامحها بالظهور مع مستشارين آخرين، وأهمّهم الكاتب السياسي جان عزيز، الرجل الذي اكتسب خبرات سياسية وإعلامية واسعة، وكان “صديقاً” لجنرالين وعونين، ولمّا انفضَّ عن الأول، وجد ضالته في الثاني، فحاول وسعى ليكون محفظة العهد السياسية الوحيدة، غير أنّ رياح العائلة عاكست سفينة عزيز، فالمطّلعون على مقتنيات القصر الاستشارية يلحظون أنّ “ديديه” يتمتّع بختم “الأمر لي”، حيث لن يهزمه أحد في قراراته.
فهو ليس مجرّد مستشار، بل “ظلّ الرئيس” الذي يفرض إيقاعه على محيط بعبدا، تمامًا كما فعل جبران باسيل في عهد عمّه ميشال عون. وإذا كان باسيل قد تحكّم بالمفاصل الوزارية والسياسية في ذلك العهد، فإنّ رحّال اليوم يعيد إنتاج التجربة نفسها، لكن بلباسٍ أمني – عائلي، ليصبح هو الآخر “الابن السياسي” الذي يُمسك بمفاتيح القصر.
إلّا أنّ وجوده إلى جانب الرئيس لا يقوم فقط على خبرته العسكرية، بل أيضًا على العلاقة العائلية الوطيدة. فكونه الصهر، أضاف بُعدًا شخصياً إلى موقعه. هذه التركيبة المزدوجة – العسكريّة والعائلية – جعلت منه أبرز الشخصيات النافذة في القصر الجمهوري.
لقد تحوّلت الرئاسة اللبنانية، في عُرف بعض شاغليها، إلى مؤسسةٍ عائلية منذ التأسيس. فلكلّ عهدٍ صهر أو عائلة حاكمة. وكان ذلك يدخل ضمن تركيبة الازدواج العائلي الذي يبلغ مرحلة الإقامة في القصر وتشييد “القصر المرادف”، كما حالة جبران باسيل. ولم يكن جبران أو أندريه رحّال قد اخترعا هذه الآفة، بل نشأت مع الرئيس الأوّل للجمهورية بشارة الخوري.
ففي أربعينيات القرن الماضي، حكم قصر بعبدا سليم الخوري فعليًّا، شقيق الرئيس بشارة الخوري، حتّى لُقِّب في حينه بـ”السلطان سليم”.
ففي العام 1943 وصل رجل الاستقلال إلى الحكم مع أبطال تلك المرحلة، غير أنّ “الأخ سليم” كان يحكم البلاد من سرايا فرن الشباك، فبدأ بتوظيف الموالين في إدارات الدولة، مستبعداً كل المعارضين، لا بل عمد إلى محاربتهم.
تدخّل في انتخابات عام 1947، حاصداً معظم المقاعد في انتخابات شابتها عمليات تزوير، ساعياً إلى تكوين أكثرية برلمانية تمهّد لتمديد ولاية شقيقه في سدّة الرئاسة، غير أنّه ساهم في أن أردى رجل الميثاق في نهاية وخيمة.
وتفاعل ولدا الرئيس كميل شمعون، داني ودوري، مع الرئاسة ونسجا للوالد علاقات في المشهد الخارجي إلى أن أصبحا قادة أحزاب. وفي عهد الرئيس سليمان فرنجية، كان نجله طوني فاعلاً، لكن الرئيس أسند أدواراً إلى صهره عبدالله الراسي، الطبيب العامل في السعودية آنذاك، والذي أصبح في عهودٍ لاحقة وزيراً للصحة.
أمّا حزب الكتائب، صاحب شعار “الله، الوطن، العائلة”، فقد استحضر معه إلى قصر بعبدا “العائلة” وترك الله والوطن خارج القصر!
ففي عهد الرئيس أمين الجميل، بعد اغتيال الرئيس بشير الجميل، أسند أمين لوالده بيار، المؤسس لحزب الكتائب، حقائب:
البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، ووزارة الشؤون الاجتماعية، ووزارة الصحة العامة.
وأبرز الأصهرة الذين عاشوا حياةً سياسية مديدة كان فارس بويز، صهر الرئيس إلياس الهراوي، والذي صار وزيراً للخارجية، ممدّداً له مع التمديد للرئيس.
وبالتمديد أيضاً، حكم الرئيس إميل لحّود، فكان صهره إلياس المرّ مارداً في زمانه، مفروزاً إلى وزارة الداخلية كحاكمٍ لا يبارزه أحد. مع تسجيل أنّ لحّود فتح الباب لابنه “إميل جونيور”، فأهداه مقعداً نيابياً في المتن الشمالي.
وحدهما الرئيسان فؤاد شهاب وإلياس سركيس لم يتزوّجا ولم يُنجبا أبناء، لِتُفرَض على الجمهورية المصاهرة. واكتفيا بمصاهرة المخابرات والمكتب الثاني، شريك الجمهورية الفاعل.
كلّما وصل رئيس، حمل معه “أهل بيته الأخيار” ليتصرّفوا بالجمهورية كما لو دعاهم إلى عشاء في صالون البيت. تتقاطع مصالحهم بين السياسة والأمن والمال، وتُمسك بخيوط القرار بعيدًا عن المؤسسات والدستور.
أندريه رحّال، ليس مجرّد ضابطٍ متقاعد أو قريبٍ للرئيس. يُقال إنّه رجل طيّب ومحلّ ثقة، وإنّه وحده خيط الوصل اليوم بين مكوّنات البلد المتناحرة. ويُشهد له أنّه صاحب باعٍ طويل ويتمكّن من السير بين حقول ألغام.
تعرّض أندريه لحادثٍ أليم قبل سنوات قليلة أقعده أشهرًا في المنزل، وكان لا يستطيع تحريك رقبته. لكنه، وبمجرّد تعافيه، أصبح “رقبة” الجمهورية وعمودها الفقري و”سلطانها السليم”.
يقول الدستور اللبناني إنّ لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه، والشعب مصدر السلطات. لكنه أغفل مادّة وحيدة تؤكّد أنّ الصهر مُلهِم الرئاسات.