زياد الرحباني… حين رفع إصبعه الوسطى في وجه السلطة والنظام الطائفي

 زياد الرحباني… حين رفع إصبعه  الوسطى في وجه السلطة والنظام الطائفي

علي منصور

رحل زياد، والضجيج من حولنا يعلو… لكنه لم يكن من أهل الضجيج. لم يكن من الذين يبيعون المبدأ لقاء “متابعة”، ولا ممن يُضحّون بالعقل من أجل ” الترند والرايتنغ ”.

كان نغمة شاذّة في جوقة التكرار. لا يُجيد النفاق، ولا يحترف التصفيق، ولا يُساير جمهورًا لا يفهمه. كان ثقيلًا على ذوق الطائفيين والعنصريين، وصعب الهضم عند المنافقين والمتلوّنين، لكنه كان خفيفًا على ضمير الفقراء، وسهل الوصول إلى قلوب المظلومين.

لم يكن فناناً يسعى وراء الأضواء، بل كان الضوء في عتمة الوعي. لم يكن مهووسًا بـ”الترند”، بل كان أعلى من الموجة، وأعمق من اللحظة. ترك لنا فناً يُضحك بمرارة، ويُبكي بسخرية، ويُفكّر رغم أنف الركود الثقافي.

زياد لم يكن فنان استعراض، ولا تاجر ضحك، ولا متسولاً على أبواب “الرايتنغ”. لم يقف يوماً في طابور النجومية، ولم يتصنّع النُكتة ليصفق له الجمهور. كان فناناً له رأس. وله موقف. وله إصبع وسطى رفعها – بكل وقاحة مبدعة – في وجه السلطة، والطائفية، والانحطاط، والجهل، والتصفيق المجاني.

في عالم تُدار فيه الفنون على يد “المحتوى الرائج”، وتُقاس القامات بعدد المشاهدات والـfollowers، كان زياد حالة شاذّة. يرفض أن يُصفّق له من لا يفهمه، ويخاطب “الناس اللي بتفهم”، من دون مجاملة ولا تسطيح. لم يكن مهتماً أن يكون محبوباً. كان مشغولاً بأن يكون صادقاً، حتى لو كلفه ذلك العزلة، والنفور، وسوء الفهم.

كثيرون اليوم ينعونه، يتباكون على رحيله، ويكتبون فيه المديح والرثاء . لكنهم لم يشاركوه يوماً رأياً ولا قناعة. لا يشبهونه في شيء. لا في السياسة، ولا في الأخلاق، ولا حتى في الحدّ الأدنى من الانحياز الإنساني. بعضهم من الذين طالما هاجموه واتّهموه بالكفر والجنون، واليوم يصطفّون في طابور الترحم والتأبين.

كيف لا، وهو الذي قالها صراحة، ووجّه كلماته – وإشاراته – إلى وجوههم مباشرة: ضد الطائفية، ضد القمع، ضد العسكر، ضد الحرب، ضد الخوف، ضد العنصرية، ضد “الفاشيين الصغار” في كل الطوائف. ضد المارونية السياسية وضدّ اليسار المتقلب .

كان زياد ابن بيئته، وابنها الخارج عليها. حمل في قلبه الفقر والحنين، وفي رأسه ماركس ولينين، وفي أصابعه ألحاناً تشبه الغضب والعناد أكثر مما تشبه الطرب السهل. كان يسارياً عنيداً، لكنه لم يكن طائفياً. وكان ناقداً للعادات والتقاليد ، لكنه لم يكن مستهزئاً بمشاعر الناس. كان كائناً معقّداً، في زمن البساطة المُسطّحة. وكان صوتاً نشازاً، في جوقة تكرار لا تُنجب إلا الرداءة.

زياد لم يمت اليوم. مات يوم مات مشروع التغيير. مات حين أصبحت إسرائيل “جارة ودودة”، والمقاومة عبئاً، والانحياز للفقراء موقفاً مريباً. مات حين صار “السيادي” من يسجد للغرب، و”المثقف” من يُغنّي على مقاس التمويل. مات حين تحوّلت الثقافة إلى خدمة توصيل سريعة.

لكنّه، رغم كل ذلك، ترك لنا ميراثاً : أن نرفع إصبعنا الوسطى في وجه كل من أراد لنا أن نصمت.

مقالات ذات صلة

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *