لماذا يخاف الحزب الديمقراطي من ممداني؟ الصراع الخفي داخل الحزب الواحد
لماذا يخاف الحزب الديمقراطي من ممداني؟
الصراع الخفي داخل الحزب الواحد
علي منصور- ليبانغيت
لم يكن الصراع داخل الحزب الديمقراطي يومًا مجرّد تنافس بين مرشحين أو اتجاهات فكرية، بل كان – وما زال – سؤالًا حول من يملك القدرة على تحديد معنى السياسة ودورها.
فمنذ اللحظة التي تقدّم فيها برني ساندرز عام 2016 ببرنامج اجتماعي يدعو إلى التعليم المجاني والرعاية الصحية للجميع والحد من نفوذ رأس المال السياسي، بدا واضحًا أن الخلاف ليس حول مضمون المقترحات بقدر ما هو حول من يحق له أن يضع قواعد العمل السياسي داخل الحزب.
هذه الأفكار لم تكن جديدة على التجربة الأميركية، بل كانت في زمن سابق جزءًا من الإجماع حول العدالة الاجتماعية. لكنّها، مع صعود نفوذ المال والإعلام، أصبحت تُقرأ كتحدٍّ لبنية قائمة من التحالفات المالية وشبكات الضغط والمصالح المستقرة.
وهنا ظهر التوتر الحقيقي: ليس بين اليسار واليمين داخل الحزب، بل بين المجتمع وقوى نفوذ فوق سياسية.
انهزم ساندرز أمام هذه الشبكات، لكن الفكرة التي حملها لم تنهزم.
بل أعادت صياغة جيل سياسي جديد: ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، رشيدة طليب، إلهان عمر.
جيلٌ جاء من هوامش المجتمع، من الطبقات التي لم يكن يُفترض أن تملك القدرة على الوصول إلى مواقع القرار.
وهنا اصطدم الحزب مرة أخرى بالتناقض بين شعاراته عن تمثيل المجتمع، وبين بنيته التي تخشى أي قفزة خارج هندسة السلطة التقليدية.
فالحزب لم يعارض هذا التيار علنًا، لكنه عمل على احتوائه دون تمكينه.
سمح له بالكلام… لكنه لم يمنحه القدرة على التأثير الفعلي.
زهران ممداني: الامتحان الجديد
اليوم يعود المشهد نفسه في نيويورك مع صعود زهران ممداني.
شاب يعتمد على التمويل الشعبي الصغير وعلى تنظيم قاعدي قائم في الأحياء متعددة الثقافات والطبقات.
لا يحمل إرث التحالفات القديمة، ولا اللافتة المؤسسية التي تمنح الحماية من العواصف السياسية.
ومع اقتراب يوم الثلاثاء الإنتخابي في 3 نوفمبر، يظهر التوتر نفسه داخل الحزب:
هل سيُسمح للقاعدة الشعبية بأن تحدد الاتجاه؟
أم ستتدخل البنية الحزبية، كما فعلت مع ساندرز سابقًا، لتصحيح “مسار” الديمقراطية قبل أن يصل إلى صناديق الاقتراع؟
المؤشرات حتى الآن تقول إن ممداني يملك فرصة حقيقية.
لكن التجارب السابقة تثبت أن اللحظات الأخيرة هي لحظة تدخل شبكات التمويل والإعلام، خصوصًا حين يُنظر إلى المرشح كتحدٍّ لبنية السلطة التقليدية.
المفارقة التي تكشف عمق الأزمة
اللافت في هذه المعركة أن المواجهة الأساسية التي يخوضها ممداني لا تأتي من خصومه التقليديين في الحزب الجمهوري أو من خطاب ترامب الشعبوي، بل من داخل الحزب الديمقراطي نفسه.
فالتيار المؤسسي داخل الحزب يرى في صعود ممداني وما يمثّله من تنظيم قاعدي وتمويل شعبي وطرح اجتماعي واضح، تهديدًا مباشرًا لبنية النفوذ السياسي والمالي التي تشكلت عبر عقود.
بمعنى آخر ، فإن خصمه الأشد ليس مَن يقف على الطرف المقابل من الخريطة السياسية، بل مَن يقف معه تحت السقف نفسه. وهنا يظهر أن جوهر الصراع ليس بين ديمقراطيين وجمهوريين، بل بين مَن يريد أن تبقى السياسة مجالًا لحماية الامتيازات، ومن يريد أن يعيد تعريفها كأداة لخدمة المجتمع.
وما جعل المشهد أكثر وضوحًا هو ترشح أندرو كومو المريب مدفوعاً من كارتلات المال والأعمال النيويوركية .
فالذي خسر في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي لم يقنع بالنتيجة ، بل عاد متخفّيًا تحت صفة “مستقلّ”، بينما هو في الواقع يحظى بدعم واضح من داخل المؤسسة الحزبية نفسها.
والأهم أنّ هذا “الترشح” تبعه انسحاب عمدة نيويورك الحالي إريك آدامز لصالحه، في خطوة لا يمكن قراءتها خارج سياق إعادة تجميع مراكز النفوذ التقليدي داخل الحزب في مواجهة ممداني والتيار القاعدي الداعم له.
وما يزيد المفارقة عمقًا هو أن دعم كومو لم يقتصر على دوائر النفوذ الديمقراطية، بل ظهر أيضًا – بصورة مباشرة أو متوقعة – في منصات ومواقف قريبة من الجمهوريين وحتى من ترامب نفسه.
ليس لأن كومو وترامب يتشاركان رؤية سياسية واحدة، بل لأنهما يتشاركان القلق ذاته من صعود نموذج سياسي لا يعتمد على المال الكبير ولا على أبواب المؤسسة الموصدة بوجه أي تغيير .
هنا يتقاطع الطرفان على هدف واحد: إبقاء قواعد اللعبة كما هي.
بهذا المعنى، فإن معركة ممداني هي ليست منافسة انتخابية تقليدية، بل مواجهة بين شكلين للحزب نفسه:
حزب يمثّله كومو وآدامز وتحالفات رأس المال والإعلام، وحزب آخر تحاول القاعدة الشعبية إعادة تشكيله من جديد.
كما تتبدّى مفارقة أخرى لافتة في سلوك الحزب الديمقراطي اليوم:
فالحزب الذي يرفع شعار حماية الديمقراطية من ترامب، يجد نفسه في لحظة التنافس الداخلي أقرب إلى مواجهة التيار التقدّمي داخل بيته منه إلى مواجهة خصومه الجمهوريين.
ليست المسألة تقاطعًا سياسيًا مع ترامب أو اتفاقًا فكريًا معه، بل تلاقٍ موضوعي في الهواجس والخوف من أي مشروع يعيد تشكيل قواعد العمل السياسي ويقلّص تأثير المال والإعلام في صناعة القرار.
فالمؤسسة التقليدية داخل الحزب تخشى فقدان قدرتها على ضبط القيادة والتمويل والتحالفات، بينما يخشى الجمهوريون أن يتحوّل التيار التقدّمي إلى نموذج يمكن أن يوسّع المشاركة الشعبية خارج دوائر السيطرة التقليدية.
وبذلك، يصبح الخصم الفعلي واحدًا:
التيار الذي يسعى إلى إعادة تعريف من يملك الحق في صناعة السياسة…
الناس أم البُنى التي تحرسها السلطة.
ماذا يعني فوز ممداني؟
إذا فاز ممداني يوم غد الثلاثاء، فلن يكون ذلك حدثًا محليًا، بل إشارة سياسية إلى أن التمويل الشعبي الصغير يمكن أن يتغلب على نفوذ المال الكبير ، وأن التيار التقدّمي لم يعد مجرد صوت احتجاجي، بل قوة انتخابية قابلة للتمدد ، وأن الحزب الديمقراطي سيكون مضطرًا للانتقال من احتواء هذا التيار إلى التفاوض معه.
وبالتالي، ستعود الأسئلة الكبرى إلى مركز النقاش الأميركي:
من يملك القرار السياسي؟
هل الدولة لخدمة المجتمع أم لحماية شبكات النفوذ؟
وهل الديمقراطية ما زالت قادرة على إنتاج التغيير من داخلها؟
حكاية زهران ممداني ليست قصة فرد، بل امتداد لسياق بدأ مع ساندرز، وتعزز مع أوكاسيو-كورتيز وطليب وعمر، ويصل اليوم إلى لحظة اختبار جديدة.
السؤال الذي سيُطرح يوم ثلاثاء الإنتخابات ليس هل سيفوز ممداني ؟ بل ، هل سيسمح النظام السياسي الأميركي له بأن يفوز؟
لأن الجواب، سواء جاء عبر الصندوق أو عبر ما سيجري حوله، سيحدد شكل الصراع في العقد المقبل . صراع ليس بين أحزاب، بل بين مجتمع وحركة شعبية تقدمية وبين مؤسسات حزبية تحاول أن تبقي السياسة تحت وصايتها .