من لاهاي إلى السراي: نواف سلام…”فيلم أميركي طويل”

 من لاهاي إلى السراي: نواف سلام…”فيلم أميركي طويل”

من لاهاي إلى السراي: نواف سلام…”فيلم أميركي طويل”

علي منصور – ليبانغيت

في خطوةٍ أثارت عاصفة من الجدل، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على منظمات حقوقية فلسطينية طالبت المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة. لكن خلف هذا المشهد، تقف مفارقة لافتة: المحكمة التي أصدرت مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو وقيادات إسرائيلية، كان يرأسها حينها القاضي اللبناني نواف سلام، الذي بات اليوم رئيسًا لحكومة لبنان ويحظى بدعم أميركي وسعودي غير مسبوق.

العدالة… في خدمة  السياسة

سلام، الذي ترأس أعلى منصة قضائية دولية، أشرف على قرارات تاريخية حمّلت إسرائيل مسؤولية انتهاكاتها في غزة. لكن الرجل نفسه انتقل سريعًا من قوس العدالة في لاهاي إلى كرسي السلطة في بيروت، بدعمٍ معلن من العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا عاقبت واشنطن قضاة ومدعين في المحكمة، ومنظمات فلسطينية طالبت بالعدالة، بينما لم تمسّ القاضي الذي أصدر الحكم ضد نتنياهو؟

واشنطن ضد المساءلة الدولية: عقوبات لحماية إسرائيل

منذ سنوات، تبنّت الولايات المتحدة سياسة صارمة في مواجهة المحكمة الجنائية الدولية، حماية لصورة إسرائيل ومنع أي مساءلة دولية بحقها.

– في شباط 2025، وقّع الرئيس ترامب الأمر التنفيذي رقم 14203، الذي نصّ على فرض عقوبات على أفراد يدعمون التحقيقات ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة، بما في ذلك تجميد الأرصدة وحظر الدخول.

– في أيار 2025، فرضت واشنطن عقوبات على أربعة قضاة من المحكمة، متهمة إياهم بـ”انتهاك السيادة الأميركية” نتيجة التحقيق في قضايا تتعلق بجنود أميركيين أو بمسؤولين إسرائيليين.

– في آب 2025، جاءت جولة جديدة استهدفت القاضية الكندية كيمبرلي بروست، والقاضي الفرنسي نيكولا يان غيو، والنائبة العامة من فيجي نازهات شميم خان، والنائب العام من السنغال مام ماندايي نيانغ. وقد وصفت منظمات قانونية دولية هذه الخطوة بأنها “هجوم صارخ على استقلال القضاء”.

– كذلك طالت العقوبات المدعي العام للمحكمة، البريطاني كريم أحمد خان، عبر تجميد أرصدته ومنعه من دخول الولايات المتحدة.

– وبالموازاة، استهدفت واشنطن منظمات فلسطينية حقوقية لمجرد مطالبتها بمحاكمة إسرائيل على جرائمها، وهي: مؤسسة الحق، مركز الميزان لحقوق الإنسان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.

الرسالة الأميركية واضحة: القانون الدولي ليس فوق السياسة الأميركية، وإسرائيل خط أحمر لا يُسمح بالمساس به.

استثناء نواف سلام: مسرحية سياسية أم هندسة مدروسة؟

وسط هذه الموجة العدائية ضد المحكمة، برز استثناء لافت: رئيس المحكمة حينها نواف سلام لم يُستهدف بأي عقوبات، رغم أن القرار الذي صدر في عهده شكّل سابقة تاريخية ضد إسرائيل.

هذا الاستثناء لا يمكن قراءته إلا في سياق سياسي بحت. فغيابه عن لائحة العقوبات يعكس عملية ترويج مدروسة: تم توظيف القرار القضائي لإضفاء هالة دولية عليه، تلميع صورته “القومية”، ثم إعادة تسويقه وتعويمه كخيار “توافقي” لرئاسة الحكومة اللبنانية وفي جعبته إنجاز من أعلى سلطة قضائية في العالم. قامت الرياض بتوفير الغطاء العربي اللازم، لتكريس صورته كزعيم “حقوقي” مقبول محليًا وإقليميًا.

يبقى القرار صفعة لإسرائيل، لكن واشنطن تعاملت معه كجزء من خطة أوسع: فهي تغاضت عن دور نواف سلام واستثنته من العقوبات، لأنها أرادت أن تحوّل هذه الصفعة نفسها إلى رصيد سياسي يهيّئه لرئاسة الحكومة في لبنان، بغطاء سعودي واضح.

المسرحية الكبرى

ما جرى في لاهاي كان بالفعل مواجهة قضائية بين العدالة الدولية وإسرائيل، لكنه لم يبقَ في إطاره القانوني البحت. فقد جرى استثماره سياسيًا، وهُندِسَت نتائجه أميركيًا وسعوديًا لتحويله إلى ورقة تخدم أجندة إقليمية، عنوانها تلميع نواف سلام وتعويمه كخيار لرئاسة الحكومة في لبنان.

فبينما استُهدف القضاة والمدعون الذين واجهوا إسرائيل بعقوبات قاسية، نجا نواف سلام من أي عقاب، ليُكافأ عمليًا برئاسة الحكومة اللبنانية.

إنها المسرحية الكبرى: حيث تُستعمل العدالة سلّمًا للسلطة، ويُوظَّف الحكم الصوري على نتنياهو لتعويم رجلٍ أُعِدّ بعناية ليجلس في السراي…و يبدأ بخدمة المحكوم عليه.

مقالات ذات صلة