هند رَجَب الَّتي أَبكَت نُجومَ هوليوود في البُندُقِيَّة

 هند رَجَب الَّتي أَبكَت نُجومَ هوليوود في البُندُقِيَّة

Screenshot

 

هند رَجَب الَّتي أَبكَت نُجومَ هوليوود في البُندُقِيَّة

زينة برجاوي – ليبانغيت

في مَهرَجانِ فينيسيا السِّينِمائيِّ، حَيثُ تَتسابَقُ الأَفلامُ العالَميَّةُ على السَّجّادَةِ الحَمراءِ، وحَيثُ يَتبارى النُّجومُ في الأَزياءِ والابتِساماتِ، خَطَفَ عَمَلٌ واحِدٌ الأَضواءَ، وَوَقَفَ لَهُ العالَمُ مُصَفِّقًا بالدُّموعِ قَبلَ التَّصفيقِ. كانَ ذٰلِكَ فِيلْمَ «صَوتِ هِندِ رَجَب»، العَمَلَ الَّذي حَوَّلَ بُكاءَ طِفْلَةٍ فِلسطينيَّةٍ إِلى صَرخَةٍ إِنسانيَّةٍ اختَرَقَت جُدرانَ القاعَةِ، وأَعَادَ لِلسِّينِما مَعناها الأَوَّلَ: أَن تَكونَ مِرآةً لِلرُّوحِ، وصَوتًا لِمَن لا صَوتَ لَه.

حِكايةُ طِفلَةٍ… وحِكايةُ وَطَنٍ

يُعيدُ الفِيلْمُ رَسمَ اللَّحَظاتِ الأَخيرَةِ في حَياةِ الطِّفلَةِ الفِلسطينيَّةِ هِندِ رَجَب، ذاتِ الأَعوامِ السِّتَّةِ، الَّتي وَجَدَت نَفسَها وَحيدَةً داخِلَ سَيَّارَةٍ مُحَطَّمَةٍ في شَوارِعِ غَزَّةَ. أَمامَ عَينَيها كانَت عائِلَتُها قَد سَقَطَت قَتيلَةً، بَينَما الجُنودُ الإِسرائيليُّونَ يُحيطونَ بِالمَكانِ. لَم تَملِك سِوى الهاتِفِ، تَتَوَسَّلُ عَبرَهُ مُساعَدَةَ فِرَقِ الإِسعافِ. تَسجيلُ تِلكَ المُكالَمَةِ الحَقيقيَّةِ، المَليئَةِ بِالبُكاءِ والرَّجاءِ، تَحَوَّلَ إِلى قَلبِ العَمَلِ السِّينِمائيِّ، حَيثُ أُعيدَ تَجسيدُهُ بِلُغَةٍ فَنِّيَّةٍ تَمزِجُ بَينَ الوَثائِقيِّ والدِّراميِّ، مِن غَيرِ أَن تَستَعرِضَ الدِّماءَ أَوِ الجُثَثَ. يَكفي صَوتُ هِندٍ لِيَحمِلَ المَأساةَ بِكامِلِها.

صَدى في قَلبِ فينيسيا

ما إِنِ انتَهى العَرضُ في قاعاتِ المَهرَجانِ الكُبرى، حَتّى دَوَّى التَّصفيقُ. دَقائقُ مَرَّت، ثُمَّ عَشرٌ، ثُمَّ عِشرونَ، قَبلَ أَن يُسَجَّلَ أَطوَلُ وُقوفٍ وتَصفيقٍ في تارِيخِ فينيسيا: ثَلاثٌ وعِشرونَ دَقيقَةً كامِلَةً. لَم يَكُن تَصفيقًا لِمُخرِجٍ أَو لِمُمَثِّلٍ بارِعٍ، بَل تَقديرًا لِطِفلَةٍ لَم تَرَ النُّورَ طَويلًا. نُجومٌ عالَميُّونَ، مِن خواكين فينيكس إِلى بْراد بِيت ورُوني مارا، غُمِروا بِالدُّموعِ قَبلَ أَن يَغمُرَهُم التَّصفيقُ. حَتّى بَعضُ السِّياسيِّينَ الَّذينَ حَضَروا لَم يَستَطيعوا أَن يُخفُوا تَأَثُّرَهُم، وكَأَنَّ صَوتَ غَزَّةَ اقتَحَمَ القاعَةَ رَغمًا عَن كُلِّ البُروتوكولاتِ.

كَوثرُ بِن هَنيَّة، المُخرِجَةُ التُّونِسيَّةُ، لَم تُخفِ أَنَّ ما دَفَعَها لِإنجازِ الفِيلْمِ لَم يَكُنِ الفُضولَ الفَنِّيَّ ولا البَحثَ عَن جائِزَةٍ، بَل الإِحساسَ بِالمَسؤوليَّةِ. قالَت: «صَوتُ هِندٍ هُو صَوتُ غَزَّةَ نَفسُهُ… صَرخَةٌ لا تَقبَلُ الصَّمتَ. العالَمُ سَمِعَ، لَكِنَّهُ لَم يَتَحرَّك. كانَ لا بُدَّ أَن نَحمِلَ الصَّوتَ إِلى أَبعَدِ مَدى.»

لَقَد جَعَلَت مِنَ الشَّاشَةِ ساحَةَ شَهادَةٍ، ومِنَ الفَنِّ وَسيلَةَ مُقاوَمَةٍ، لا لِلدِّعايَةِ ولا لِلشِّعاراتِ، بَل لِنَقلِ الحَقيقَةِ كَما هِيَ: بُكاءُ طِفلَةٍ قَبلَ أَن تُطفَأَ حَياتُها.

وَراءَ الفَنِّ… جُرحٌ مَفتوحٌ

لَم يَكُنِ الفِيلْمُ تَجرِبَةً بَصَرِيَّةً وَحَسْبُ، بَل رِحلَةً داخِلَ الضَّميرِ الإِنسانيِّ. المُمثِّلُ الفِلسطينيُّ مُعتَزٌّ مِلحَس لَخَّصَ الأَمرَ بِقولِهِ: «ما أَدَّيناهُ لَم يَكُن تَمثيلًا، بَل حَياةً سُرِقَت.» أَمّا والِدَةُ هِندٍ، الَّتي بَقِيَت تُواجِهُ أَلَمًا لا يُطاقُ، فَقَد عَبَّرَت عَن أَمَلٍ واحِدٍ: أَن يَكونَ هٰذا الفِيلْمُ بِدايَةَ نِهايَةٍ لِلحَربِ، أَو عَلى الأَقَلِّ بِدايَةَ تَذكيرٍ لِلعالَمِ بِأَنَّ أَطفالَ غَزَّةَ بَشَرٌ، لا أَرقامًا في نَشَراتِ الأَخبارِ.

صَوتٌ يَتَجاوَزُ السِّينِما

في فينيسيا هٰذا العامِ، لَم يَكُنِ الفِيلْمُ هُو البَطَلَ، بَل الصَّوتُ. صَوتُ هِندِ رَجَب الَّذي أَبكى قُلوبَ النُّجومِ، وأَوقَفَ الزَّمَنَ في أَعرَقِ المَهرَجاناتِ. طِفلَةٌ رَحَلَت مُبَكِّرًا، لَكِنَّها تَرَكَت وَراءَها ما لَم تَستَطِعِ السِّياسَةُ أَن تَترُكَهُ: دَمعَةً مُشتَرَكَةً بَينَ بَشَرٍ مِن كُلِّ القارّاتِ، ورِسالَةً واحِدَةً تَقولُ: إِنَّ الإِنسانيَّةَ ما زالَت قادِرَةً عَلى أَن تُصغي.

مقالات ذات صلة