تمخّض مجلس الأمن فولد بياناً صحفياً!

 تمخّض مجلس الأمن فولد بياناً صحفياً!

تمخّض مجلس الأمن فولد بياناً صحفياً!

علي منصور – ليبانغيت

أصدر مجلس الأمن بياناً صحفياً بالإجماع يدين “الضربات التي وقعت في الدوحة” ويعرب عن “الأسف لسقوط ضحايا مدنيين”. بيانٌ يبدو في ظاهره متوسط  اللهجة، لكنه في مضمونه مجرّد ورقة بلا أنياب: لم يسمِّ إسرائيل، لم يحمّل أحداً المسؤولية، واكتفى بعبارات تصلح لكل الأطراف… حتى لإسرائيل نفسها. أعضاء مجلس الأمن أدانوا “الضربات”، تعاطفوا مع الضحايا، أكدوا على سيادة قطر، وأشادوا بدور الوساطة. كل شيء جميل على الورق: تضامن، سيادة، ضبط نفس. لكن حين تبحث عن الجملة الحاسمة — “إسرائيل التي قصفت” — لن تجدها. كأنما اختفى الفاعل من مسرح الجريمة، تاركاً خلفه دخاناً يتصاعد بلا اسم.

هذا النص بدا بوجهين: في الدوحة يُقرأ كإدانة، وفي تل أبيب يمكن أن يُعلَّق على الحائط باعتباره “إقراراً بالبراءة”. أشبه بمحقق يكتب في محضر التحقيق: “وقع إطلاق نار… نأسف للضحايا… نرجو ضبط النفس” من دون أن يجرؤ على ذكر اسم القاتل. لغة مطاطية تصلح لبيانات الصليب الأحمر أكثر مما تصلح لبيان أعلى هيئة مسؤولة عن الأمن والسلم الدوليين. ومع أنّ البيان بدا خالياً من أي مضمون حقيقي، فقد جاء بإجماع الأعضاء الخمسة عشر، وهو ما يُعَدّ تطوراً نادراً في الملفات المتصلة بإسرائيل. غير أنّ هذا التوافق لم يكن مكسباً سياسياً لقطر  بقدر ما كان إنجازاً سياسياً لإسرائيل، إذ أتاح لها أن تخرج من جلسة مجلس الأمن من دون أن يُذكر اسمها صراحة .

أما على المستوى السياسي، فإنّ ما جرى يفتح الباب أمام الكثير من التساؤلات. فبينما أبدى مجلس الأمن أسفه للضحايا وأدان “الضربات” من دون أن يسمّي الجهة المسؤولة، بدا الأمر في نظر كثيرين كأنه يمنح إسرائيل فرصة للإفلات من الاتهام المباشر. في واشنطن، لم يبدُ أن الإدارة الأميركية فوجئت بما حدث،  فالرئيس ترامب كان على علم مسبق بالضربة الإسرائيلية، أو على الأقل فضّل أن يُبقي على مسافة محسوبة تسمح بمرور البيان بتلك الصياغة الملتبسة. في المقابل، استطاع نتنياهو أن يقدّم النص لشعبه على أنه شهادة براءة، مؤكداً أنّ أقوى منظمة دولية في العالم لا تجرؤ على إدانة إسرائيل. فالمجلس أدان “الضربات” ولم يقل “إسرائيل”، وهذا يكفيه ليعود إلى جمهوره قائلاً: “حتى الأمم المتحدة لم تجرؤ على اتهامنا!” هكذا خرج نتنياهو  بمكاسب سياسية داخلية ولو بتكلفة معنوية  خارجية عالية ، بينما تُرك الضحايا وحدهم يواجهون مصيرهم، يرفعون الصوت بالبكاء، في وقت كان الجناة يجدون في الغموض مادةً للتصفيق.

هكذا لم يكن بيان مجلس الأمن إدانة لإسرائيل بقدر ما كان إدانة للفراغ. نص بلا أسماء، بلا جناة ولا مسؤولين. ورقة أشبه بإعلان في صحيفة محلية: “حدث إطلاق نار… الفاعل مجهول.”

في عالم السياسة الأممية، هذه هي الذروة: أن يُمنح الضحية حق البكاء، ويُترك  للجاني حق التصفيق.

مقالات ذات صلة