قراءة نقدية في طروحات توم برّاك

 قراءة نقدية في طروحات توم برّاك

تحت المجهر

قراءة نقدية في طروحات توم برّاك !


علي منصور – ليبانون غيت

في مقابلات متزامنة مع صحيفتي The National الإماراتية وArab News السعودية، عاد الملياردير الأميركي اللبناني الأصل توم برّاك إلى المشهد اللبناني من بوابة “المساعدة”، حاملاً خطابًا جديدًا قديمًا: نزع سلاح حزب الله كشرط لإنقاذ لبنان من الانهيار.

لكن خلف هذا الخطاب، تبرز تساؤلات جوهرية حول أهدافه الحقيقية، وسياقاته السياسية، وحدود الواقعية فيه، خاصة حين يصدر عن شخصية مثيرة للجدل، سبق أن خضعت للمحاكمة بتهمة الترويج لمصالح خارجية داخل الولايات المتحدة.

أطروحة “لبنان المُبتلع”: تكرار لخطاب التهويل

يرى رجل الأعمال المقرّب من دوائر القرار الأميركي أن لبنان مهدد بـ”الابتلاع” من قِبل قوى إقليمية إذا لم يتحرك سريعًا لنزع سلاح حزب الله وتنفيذ الإصلاحات. وهو بذلك يُعيد إنتاج سردية لطالما استخدمت لشيطنة المقاومة، وتقديم سلاحها على أنه عائق أمام قيام الدولة.

بقراءة واقعية يتبين أنّ التهديد الحقيقي لوحدة لبنان لم يأتِ من سلاح مقاومة حرّرت الأرض، بل من الفراغ السيادي الذي خلّفته دولة منهارة ومؤسسات عاجزة. فمنذ اندلاع النزاعات الكبرى في المنطقة، لم يكن الخطر على لبنان ناتجًا عن فائض قوته، بل عن ضعف مناعته السياسية والاقتصادية والاجتماعية…
في هذا السياق، لم يكن سلاح المقاومة هو ما عطّل الدولة، بل كان – في لحظات كثيرة – عامل توازن منع انزلاق البلد إلى الفوضى أو الارتهان الكامل لمعادلات خارجية.

ولذلك، فإن الحديث عن “ابتلاع لبنان” لا يُواجه بتفكيك أدوات الحماية، بل بإعادة ترميم الدولة، وبناء مؤسسات قادرة على صون السيادة من دون أن تنسف عناصر القوة القائمة، بل الاستفادة منها عبر استراتيجية دفاع وطني بوجه الأطماع الخارجية، إسرائيلية كانت أم سورية.

الإشارة إلى “بلاد الشام”: زلّة لسان أم إعلان نوايا؟

أخطر ما ورد في كلام المبعوث الأميركي هو قوله إن “لبنان إذا لم يتحرك، فقد نعود إلى بلاد الشام”.
هذه العبارة، وإن حاول لاحقًا التخفيف من دلالاتها بالقول إنها لا تعني تهديدًا للبنان، إلا أنها تُظهر بوضوح النوايا الضمنية لتكريس واقع إقليمي جديد، يعيد دمج لبنان في إطار جغرافي سياسي يتجاوز حدوده المستقلة، ويحوّله إلى ساحة نفوذ تتقاطع فيها مصالح إسرائيل وسوريا والدول الخليجية، بدل أن يبقى كيانًا سياديًا قائماً بذاته.

الواقعية السياسية: نزع السلاح أم تفكيك لبنان؟

يقدّم المستثمر اللبناني الأصل ما يشبه خارطة طريق تبدأ بتسليم حزب الله أسلحته الثقيلة (الصواريخ والطائرات المسيّرة) إلى مخازن يشرف عليها الجيش اللبناني تحت آلية دولية تشمل الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، فرنسا، بل وحتى إسرائيل.

هذه الطروحات، وإن قُدّمت بلغة دبلوماسية، إلا أنها تنطوي على تناقض بنيوي. فمن جهة، يعترف المتحدّث نفسه بأن الجيش اللبناني لا يمتلك الإمكانيات ولا التمويل اللازم لتنفيذ هذه المهمة، ويقرّ بأن سحب السلاح بالقوة قد يؤدي إلى حرب أهلية. ومن جهة أخرى، يدعو إلى تسليم هذا السلاح الطوعي إلى دولة مفككة، ومؤسسات عاجزة، ووسط بيئة إقليمية مأزومة.

فهل المطلوب هو نقل سلاح المقاومة إلى الدولة اللبنانية، أم إتلافه ما دامت الأخيرة عاجزة عن استلامه؟ أو ربما يقترح برّاك شحنه وتخزينه في ميناء حيفا؟

من يمول الجيش؟ سؤال برسم الشروط السياسية

يشير صاحب الاقتراحات إلى مساعٍ تبذلها واشنطن لإقناع الدول الخليجية بتمويل الجيش اللبناني، لكنه يعترف بأن الخليجيين مترددون بسبب تجاربهم السابقة مع الفساد السياسي في لبنان.
وهذا التوصيف صحيح جزئيًا، لكنه يخفي حقيقة أن هذا التمويل مشروط سياسيًا، ويُراد به إعادة بناء مؤسسة عسكرية “محايدة” شكلاً، لكنها تنتهي – كما حصل في دول أخرى – أداة لضبط الداخل وتطويع البيئة الحاضنة للمقاومة.

الخشية هنا ليست من تسليح الجيش، بل من عسكرة الانقسام الداخلي على أساس طائفي وسياسي، عبر جيش يُطلب منه أن يواجه شريحة لبنانية كبرى، لا أن يحمي الوطن من العدوان.

المفاوضات مع إسرائيل: من الترسيم إلى التطبيع المقنّع

يعترف برّاك بأن الولايات المتحدة لعبت دور الوسيط غير المعلن بين لبنان وإسرائيل، وأن مفاوضات غير مباشرة تجري بالفعل. وهو إذ يطرح فكرة “سلام دون اعتراف متبادل” عبر الإبقاء على مناطق منزوعة السلاح، فإن هذا لا يختلف كثيرًا عن نماذج كامب ديفيد ووادي عربة، لكن دون تحرير ما تبقى من الأرض اللبنانية المحتلة، ودون تحرير الأسرى، ودون ممارسة حق لبنان السيادي باستخراج نفطه وغازه من البحر.
الخطورة هنا أن يُستخدم شعار “منع التصعيد” لتفكيك عناصر القوة اللبنانية، وتحويل الجنوب إلى منطقة مفتوحة أمنيًا أمام العدو، بحجة الاستقرار.

الدولة الطائفية… وإصلاح لا يبدأ من السلاح

في ختام حديثه، يلمّح “عرّاب التطبيع ” إلى أن النظام الطائفي في لبنان لم يعد منطقيًا، داعيًا إلى إصلاح سياسي غير محدد المعالم.
لكن اللافت أن هذا “الإصلاح” يبدأ – عنده – من تسليم السلاح، لا من وضع قانون انتخابي عادل، أو إلغاء الطائفية السياسية، أو استرداد الأموال المنهوبة، أو بناء قضاء مستقل…

بهذا المعنى، الإصلاح الذي يريده برّاك نابعٌ من رغبة الولايات المتحدة في إعادة رسم شكل الدولة بما يتناسب مع شبكة مصالحها الدولية والإقليمية، وبما يحفظ أمن الإحتلال الإسرائيلي .

مقالات ذات صلة