فرنسا التي سجنت العدالة

فرنسا التي سجنت العدالة

بعد 41 عامًا من الاعتقال، قرّر القضاء الفرنسي الإفراج عن المناضل اللبناني جورج إبراهيم عبد الله. قرارٌ متأخّرٌ لن يمحو جور القضاء الفرنسي، الذي خنق العدالة طويلًا خلف أبواب السياسة المغلقة، في بلدٍ يدّعي الريادة في حقوق الإنسان، ويتغنّى بمبادئ الثورة، فيما يمارس أبشع أنواع الظلم “المتحضّر” ببرودة شديدة، واستسهالٍ مريع لهدر الكرامة والحق.

قضية جورج عبد الله لم تكن يومًا قضية جنائية عادية، بل قضية سياسية بامتياز. فالرجل الذي اعتُقل عام 1984، وأدين لاحقًا بتهم تتعلّق باغتيال دبلوماسيي الكيان الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان وحاصر العاصمة بيروت آنذاك، بات مؤهّلًا للإفراج منذ عام 1999. لكن “الحرية” في فرنسا لا يمنحها القضاء، بل تصنعها التوازنات الدولية، ويُصدّق عليها في مكاتب السفارات.

على مدى أكثر من عقدين، رفضت الحكومات الفرنسية المتعاقبة توقيع مرسوم ترحيله، رغم موافقة القضاء مرارًا. وكانت الأسباب الحقيقية واضحة: واشنطن تعارض، وتل أبيب تضغط، وباريس تنفّذ. فهل هذه هي الدولة التي تُدرّس العالم مبادئ العدالة وحقوق الإنسان؟

فرنسا، ببساطة، قرّرت أن العدالة لا تشمل المقاومين، وأن القانون يُطبَّق فقط على من لا يُزعج واشنطن. أمّا من يجرؤ على تحدّي “إسرائيل”، فمصيره الحبس الأبدي… ولو انتهت محكوميته.

والمفارقة أن فرنسا، في خطابها السياسي، لا تهدأ عن إدانة سجون “العالم الثالث”، والمطالبة بالإفراج عن سجناء الرأي هنا وهناك. لكنها، في قلب أوروبا، احتجزت رجلًا انتهت محكوميته منذ ربع قرن، لا لشيء… سوى لأنه لبناني ضدّ الاحتلال.

لم يكن جورج عبد الله سجينًا عاديًا، بل كان رهينة دولة. كل تمديد لسجنه لم يكن قرار قاضٍ، بل قرار سفير. وكل تأخير في الإفراج عنه لم يكن خطأً إجرائيًا، بل خضوعًا سياسيًا فاضحًا.

اليوم، يخرج جورج عبد الله من السجن، لكن وصمة العار تبقى. ليست على جبينه، بل على جبين دولةٍ ادّعت أنها مهد العدالة، فإذا بها تسجن العدالة نفسها.

فرنسا ليست بريئة. وهي مطالبة، لا بالإفراج فقط، بل بالاعتذار. فجرائم العدالة المؤجّلة لا تسقط بالتقادم… ولا تُغسل بالبيانات الكلاسيكية الأنيقة شكلًا، القذرة مضمونًا.

مقالات ذات صلة