السلاح النووي لا يُصنع فقط في المفاعلات

 السلاح النووي لا يُصنع فقط في المفاعلات
 
كيف تصنع السياسة ما تعجز عنه الفيزياء؟
 
علي منصور – ليبانون غيت
 
في النقاشات الدائرة حول انتشار السلاح النووي، كثيرًا ما يُساء فهم العوامل الحقيقية التي تحكم قدرة الدول على امتلاك هذا السلاح الفاصل. فبينما يُفترض أن القدرات التقنية والعلمية هي المحرك الرئيسي، تظهر التجارب الواقعية أن النظام الدولي، بتحالفاته وصراعاته وتوازناته، هو من يرسم حدود المسموح والممنوع في هذا المضمار شديد الحساسية.
 
ثماني تجارب نووية متباينة، تشترك في الزمن وتفترق في المصير: الهند، باكستان، إيران، كوريا الشمالية، إسرائيل، العراق، ليبيا، وسوريا… كلٌّ منها يُجسّد نموذجًا حيًّا لكيفية تعاطي النظام الدولي مع طموحات الردع.
 
ولعل الفارق بين نجاح بعض الدول في التحول إلى قوى نووية، وإخفاق أخرى رغم الطموح المتواصل، يكشف جوهر هذه المعادلة.
 
 
 
الهند: الردع المشروع بصمت الحلفاء
 
حين فجّرت الهند أول قنبلة نووية عام 1974 تحت اسم “بوذا المبتسم”، لم تكن موقّعة على معاهدة حظر الانتشار (NPT)، لكنها لم تواجه عزلة دولية تُذكر.
وقد استطاعت لاحقًا تطوير ترسانة نووية كاملة دون أن تُدرج على قائمة الدول “المارقة” أو تُفرض عليها عقوبات بحجم تلك التي وُجّهت لإيران وكوريا الشمالية.
 
السبب؟ أن الهند بقيت، رغم تحالفاتها المتعددة، ضمن هامش المقبول الجيوسياسي غربيًا، خصوصًا في ظل التنافس مع الصين واعتبارها شريكًا محتملًا في توازن القوى الآسيوي.
 
وفي عام 2008، جاء الاتفاق النووي المدني بين الهند والولايات المتحدة ليكرّس هذا الاستثناء القانوني والسياسي، حيث أُعيد دمج الهند في النظام النووي العالمي… دون توقيعها على معاهدة منع الانتشار.
 
 
 
باكستان: عندما تلتقي الحاجة الاستراتيجية بالفرصة التاريخية
 
بفعل التجربة النووية الهندية، وجدت باكستان، الجارة اللدودة، نفسها أمام خيار وجودي. يومها قال رئيس الوزراء ذو الفقار علي بوتو عبارته الشهيرة:
“سنصنع القنبلة ولو اضطررنا لأكل العشب.”
 
لكن هذا القرار السياسي الجريء ما كان ليصل إلى خواتيمه لولا توافر سياق دولي نادر في توقيته:
1.اندلاع الحرب الباردة الأفغانية مع الغزو السوفياتي لأفغانستان عام 1979، حيث تحوّلت باكستان إلى الحليف المحوري للولايات المتحدة في دعم المقاومة الأفغانية. هذا “الغضّ الطرف الاستراتيجي” سمح للبرنامج النووي بالنمو في الظل، بعيدًا عن ضغوط الحظر والتفتيش الدوليين.
2.العالِم عبد القدير خان الذي أنشأ شبكة تهريب معقدة وفّرت المعدات الحساسة من أوروبا الشرقية ودول آسيوية، كما وثّق تقرير معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS) عام 2007.
3.الدعم الصيني غير المعلن؛ فرغم النفي الرسمي، تشير تقارير من معهد ستوكهولم لأبحاث السلام (SIPRI) إلى أن الصين زوّدت باكستان بتصاميم أساسية في إطار التوازن مع الهند.
4.ضعف منظومة منع الانتشار في السبعينات والثمانينات، حيث كانت قدرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) محدودة تجاه البرامج السرية غير الخاضعة للتفتيش.
 
هكذا، وفي لحظة التقاء الحاجة الأمنية بهامش المناورة الجيوسياسية، نجحت باكستان – رغم هشاشة اقتصادها وتعدد الانقلابات – في الوصول إلى السلاح النووي الكامل عام 1998.
 
 
 
إيران: معركة النووي في مرمى النظام الدولي
 
تمتلك إيران بنية علمية متقدمة، وخبرات هندسية بارزة في الفيزياء النووية. ومع ذلك، بقيت عاجزة عن تجاوز العتبة النووية العسكرية، رغم مرور أكثر من عقدين على انكشاف برنامجها النووي.
 
السر يكمن في البيئة الجيوسياسية المعقدة:
1.الاصطدام المبكر مع الغرب منذ سقوط الشاه عام 1979، ما وضع برنامجها النووي تحت المجهر الدولي منذ اليوم الأول.
2.الحرب مع العراق التي استنزفت قدرات إيران البشرية والعلمية والاقتصادية.
3.غياب البراغماتية السياسية، إذ لم تستفد إيران من الحرب الباردة كما فعلت باكستان، بل اصطدمت مع القطبين معًا.
4.فاعلية العقوبات الذكية التي استهدفت البنية التحتية للبرنامج، وشلّت قدرات إيران التقنية والمالية.
5.الاختراقات الإسرائيلية والأمريكية التي دمّرت بنى البرنامج من الداخل، عبر الفيروسات السيبرانية (مثل Stuxnet) وعمليات الاغتيال الدقيقة.
6.نظام التفتيش الصارم للوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد الكشف عن منشآت نطنز وفوردو وأراك، ما قلّص بشدة هامش العمل السري.
7.غياب الحلفاء الحقيقيين؛ فروسيا والصين لم تقدّما المساعدة النووية كما فعلت الصين مع باكستان، وفضلتا الالتزام بالعقوبات الأميركية.
 
 
 
كوريا الشمالية: نموذج الاستثناء الخطير
 
رغم الفقر المدقع والعزلة الدولية، نجحت بيونغ يانغ في تطوير سلاح نووي من خلال:
1.الحماية الصينية الضمنية التي حالت دون إسقاط النظام.
2.تعامل النظام مع القنبلة كأداة ابتزاز مقابل مكاسب اقتصادية.
3.الطبيعة الأمنية المغلقة التي منعت الاختراق الخارجي.
 
إسرائيل: النووي المسكوت عنه… وشرعية الغلبة
 
منذ الستينات، ومع المساعدة الفرنسية، أنشأت إسرائيل مفاعل “ديمونا”، وسلكت طريقًا سريًا نحو السلاح النووي، مرتكزة على:
1.سياسة الغموض النووي: لا اعتراف رسمي ولا نفي قاطع.
2.الدعم الغربي المطلق: خاصة الأميركي في مجلس الأمن.
3.الردع الوقائي: مثل قصف مفاعل تموز العراقي عام 1981.
 
وهكذا، حازت إسرائيل سلاحًا نوويًا فعليًا خارج القانون الدولي… بضوء أخضر غير معلن.
 
ثلاث تجارب عربية… الردع الممنوع
 
العراق: من الطموح إلى التدمير الكامل
 
قُصف مفاعل “تموز” عام 1981، ثم دُمّر كل شيء بعد 2003 تحت ذريعة البرنامج النووي، رغم انعدامه الفعلي.
 
ليبيا: السلاح مقابل البقاء… ثم لا بقاء
 
سلّم القذافي البرنامج عام 2003… وفي 2011، سقط النظام دون حماية من أحد.
 
سوريا: مشروع أُجهض في مهده
 
عام 2007، دمّرت إسرائيل موقع الكُبر، وسط صمت دولي، رغم تقارير الوكالة الدولية.
 
 
دروس استراتيجية حاسمة
 
المسار المقارن بين الهند، باكستان، إيران، كوريا الشمالية، إسرائيل، والعرب، يؤكد أن قرار حيازة السلاح النووي لا يُصنع داخل المفاعلات فقط، بل في توازنات مجلس الأمن، وحسابات القوى الكبرى، وسياقات الاحتواء الدولي.
•باكستان (البراغماتية): نجحت حين التقت مصلحتها مع الغرب في لحظة الحرب الباردة.
•إيران (الثورة): فشلت لأنها واجهت القطبين معًا، ثم اصطدمت بآلة مراقبة شرسة.
•كوريا الشمالية (المبتزّة): نجحت بتحويل القنبلة إلى أداة تفاوض.
•إسرائيل (المدللة): امتلكت السلاح خارج القانون، تحت حماية الحلفاء.
•العرب (المجردون): كل محاولة لامتلاك الردع قُوبلت بالقصف أو الغزو… بلا محاسبة
 
حيازة السلاح النووي لم تعد تُقاس باحترام المعاهدات، بل بقدرة الدولة على فرض استثناء جيوسياسي.
فالقانون الدولي هنا ليس مبدأً عامًا، بل آلية انتقائية تُفعّل عند اللزوم… وتُعطّل عند الحاجة.

مقالات ذات صلة