حين تحوّل الجسد إلى ساحة استعمار

 حين تحوّل الجسد إلى ساحة استعمار

حين تحوّل الجسد إلى ساحة استعمار

ليال شهاب  – ليبانغيت

في سبعينيات القرن الماضي، لم يكن أطفال غرينلاند – الجزيرة الجليدية التابعة إداريًا للدنمارك – يعرفون أن معركة جديدة تنتظرهم، معركة لا علاقة لها بالثلوج ولا بالعزلة القاسية، بل بأجسادهم نفسها.

كانت الحكومة الدنماركية تسعى، في تلك الحقبة، إلى الحدّ من معدلات الولادة بين السكان الأصليين في غرينلاند. والوسيلة؟ خطط “طبية” تحت غطاء تحسين الصحة الإنجابية. لكن خلف الأبواب المغلقة، كان الأطباء يزرعون اللولب (IUD) في أجساد آلاف الفتيات والنساء، بعضهن لم يتجاوزن الثانية عشرة من العمر، دون إذن عائلي أو حتى علم الضحية بما يُزرع داخلها.

من الطبابة إلى السيطرة

الروايات التي ظهرت اليوم في التقرير الصادر عن لجنة مستقلة دانماركية-غرينلاندية تصف مشاهد صادمة:

– مراهقات استُدعِين للفحص الطبي الدوري ليكتشفن لاحقًا أن أجسادهن تغيّرت بلا إذن منهن.

– نساء تلقّين حقنًا هرمونية، قيل لاحقًا إنها سبّبت لهن العقم مدى الحياة.

– أخريات كنّ يصرخن من الألم بعد زرع اللولب، لكن الأطباء كانوا يصدّون شكواهن بجفاف، رافضين إزالته.

إحدى الشهادات المؤثرة جاءت لامرأة في الخمسين من عمرها اليوم، قالت: لم أفهم ما الذي فعلوه بيإلا بعد سنوات. كنتُ طفلة، وخرجت من العيادة وأنا أحمل شيئًا داخل جسدي لم أختره، ولم أطلبه.”

إرث الاستعمار لا يموت بسهولة

غرينلاند، رغم حكمها الذاتي اليوم، بقيت لعقود تحت سلطة مباشرة للدنمارك. وسياسات مثل هذه لم تكن مجرد “قرارات طبية”، بل أداة للسيطرة السكانية. الهدف – بحسب محللين – كان كبح النمو الديموغرافي للسكان الأصليين الذين طالما نظر إليهم الاستعمار كمصدر عبء اقتصادي واجتماعي.

وبذلك، لم يكن زرع اللولب إجراءً صحيًا،  بل كان امتدادًا للهيمنة الاستعمارية، حيث لم يملك الجسد الأنثوي الحق في تقرير مصيره، بل صار وسيلة لتطبيق “سياسات الدولة” على مجتمع بأكمله.

صمت طويل… ثم انفجار الحقيقة

لم يُكشف المستور إلا بعدما بدأت شهادات النساء والفتيات تتراكم في الإعلام المحلي، ما دفع الحكومة الدنماركية إلى تشكيل لجنة تحقيق مشتركة.

– التقرير النهائي وصف الممارسات بأنها “انتهاك جسيم للحقوق الأساسية”.

– المعارضة في البرلمان طالبت بالاعتذار الرسمي وتعويض الضحايا.

– رئيسة وزراء الدنمارك عبّرت عن “صدمتها”، لكنها تواجه ضغوطًا متزايدة للاعتراف بأن ما حصل لم يكن “خطأ فرديًا” بل سياسة ممنهجة.

الألم الذي لا يزول

بعض الضحايا يعشن اليوم حياة مليئة بالندوب النفسية والجسدية:

– نساء لم يستطعن الإنجاب بسبب ما تعرضن له.

– أخريات حملن لعقود شعورًا بالعار أو الخيانة، واعتقدن أن ما جرى كان تقصيرًا شخصيًا لا جريمة دولة.

– جيل كامل من الفتيات نشأ وهن يشعرن أن أجسادهن ملك للآخرين.

هذه ليست مجرد قصة عن طب مسيّس، بل عن كيف يمكن للاستعمار أن يتسلل إلى أكثر المناطق خصوصية في حياة الإنسان: رحم المرأة. وما كشفه التقرير اليوم ليس فقط فضيحة طبية، بل إدانة لتاريخ استعماري لم يُدفن بعد.

ما جرى في غرينلاند ليس مجرّد صفحة من الماضي الاستعماري، بل مرآة لما نعيشه اليوم في صور مختلفة. فحين يُنتزع قرار المرأة من جسدها، سواء بلولب يُزرع قسرًا في جزيرة نائية أو بقوانين تُسنّ في عواصم الغرب والشرق لتقييد الحرية الإنجابية، يصبح الاستعمار حالة متجددة تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ. الاستعمار هنا لم يعد جيوشًا تحتل الأرض، بل سياسات تقيّد الجسد والوعي والحق في الاختيار. ومن غرينلاند إلى غزّة، ومن أميركا اللاتينية إلى قلب أوروبا، يبقى الدرس واحدًا: الحرية لا تتجزأ، وأي سلطة تسلب الإنسان قراره عن جسده إنما تعيد إنتاج منطق السيطرة الذي ادّعى العالم أنّه دفنه مع الاستعمار.

مقالات ذات صلة