سمير جعجع والحلم الممنوع من الصرف

سمير جعجع والحلم الممنوع من الصرف
علي منصور – ليبانغيت
منذ أن خرج سمير جعجع من سجنه عام 2005، لم يُخفِ طموحه إلى كرسي بعبدا. قدّم نفسه باعتباره رجل الدولة الجديد، الماروني الذي يحمل مشروع “السيادة” في مواجهة سلاح حزب الله، والزعيم الذي يملك الجرأة على قول ما لا يجرؤ غيره على التفوّه به. لكن كل هذا الخطاب لم ينجح يومًا في تحويل حلم الرئاسة إلى احتمال واقعي. فالحلم عند جعجع يشبه “الحلم الممنوع” يردّده في خطاباته ويُسجَّل في أوراقه، لكنه يبقى غير قابل للصرف في بنك السياسة اللبنانية.
الواقع المسيحي نفسه لا يمنحه الشرعية. باستثناء حزبه “القوات اللبنانية” ومناصريه، لم يستطع جعجع أن يشكّل إجماعًا مسيحيًا حوله. بكركي، المرجعية التاريخية للمسيحيين الموارنة، لم تُدرجه يومًا في لوائحها المفضّلة كخيار أوحد ، بل حرصت على التوازن بين الأقطاب الآخرين كتيار المردة أو التيار الوطني الحر. حتى الشخصيات المستقلة والنخب المسيحية ترى فيه رمزًا لمرحلة الحرب الأهلية أكثر منه رمزًا للمصالحة الوطنية. إنّه أسير حزبه، لا زعيم طائفته.
حتى المؤسسة العسكرية، التي يُفترض أن تكون في موقع الحياد، لا تنظر إلى سمير جعجع من زاوية طبيعية. صحيح أن معظم الضباط والجنود الذين خاضوا الحرب ضد “القوات اللبنانية” باتوا خارج الخدمة بعد أكثر من 35 عامًا على انتهائها، لكن الذاكرة المؤسسية للجيش لا تُمحى بسهولة. فجعجع، في الوجدان العسكري، يبقى قائد ميليشيا اشتبكت يومًا مع الجيش نفسه، وهذه الصورة تترك ظلّها على أي احتمال لرئاسته. فكيف يمكن لمن قاتل ضباط الجيش اللبناني أن يصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة؟ وكيف ستُرفع له التحية العسكرية من مؤسسة كان يومًا في مواجهتها؟
أما في الجبل، فإن الذاكرة أقوى من أي براغماتية. وليد جنبلاط، على مرونته وتقلّباته السياسية، لم ينجح يومًا في محو جراح سوق الغرب من ذاكرة الدروز. هناك، كانت دماء غزيرة سالت في معارك مع “القوات اللبنانية” بقيادة جعجع. وبالنسبة إلى الجماعة الدرزية، تلك الصفحات لا تُطوى بسهولة، ولا يمكن أن يُستبدل الماضي الدموي بابتسامة انتخابية. لذا، من الصعب أن يتصوّر أحد أن المختارة ستضع أصواتها في صندوق باسم جعجع، مهما تغيّرت الظروف.
وعلى الضفة السنّية، لم يكن جعجع يومًا خيارًا مقبولًا. العلاقة مع تيار المستقبل حملت مرارة وخيبات متكررة، خصوصًا في عهد سعد الحريري الذي تلقّى أكثر من طعنة من “الحليف المفترض”. من الانسحاب من التسويات في اللحظات الحرجة إلى محاولات تسجيل النقاط على حساب الحريري في الشارع السني، خلّف جعجع ندوبًا سياسية عميقة. وزاد الطين بلّة في عام 2017 حين لعب دور الواشي، ناقلًا إلى الرياض تقارير ومواقف أوحت بأن الحريري متساهل مع حزب الله، ما أسهم في تهشيم علاقته بالمملكة وصولاً لاحتجازه في الرياض . وحتى بعد انسحاب الحريري من المشهد، فإن جمهوره لا يرى في جعجع البديل ولا الحليف، بل الخصم الذي تقاطع مع أعداء البيت الأزرق أكثر مما وقف إلى جانبه.
لكن العقدة الأعمق تبقى في البيئة الشيعية. بالنسبة إلى حزب الله وحركة أمل، جعجع ليس مجرد خصم سياسي، بل عدو وجودي. هو “الحليف التاريخي لإسرائيل” كما يراه الثنائي، وهو الرجل الذي يرفع شعار نزع سلاح المقاومة ليلاً ونهارًا. وأي رئاسة في لبنان لا يمكن أن تمر من دون موافقة الشيعة، الذين يشكّلون حجر الزاوية في أي تسوية وطنية. وهنا، يصبح الحلم مستحيلاً بالكامل، إذ لا مقايضة يمكن أن تفتح الطريق أمامه إلى بعبدا في ظل هذه المعادلة.
هكذا، يتبدّى المشهد: مسيحيون منقسمون لا يجتمعون عليه، دروز يحملون ذاكرة دموية لا تُمحى، جيش ينظر إليه بتحفّظ، سنّة يتذكّرون طعناته، وشيعة يضعونه في خانة الرفض المطلق. كل هذا يجعل من حلم جعجع بالرئاسة أشبه بحلم معلّق في الهواء، يُستعمل في الخطابات والمفاوضات لكنه لا يجد مكانًا على الأرض.
سمير جعجع قد يملك آلة حزبية منظمة، وقد يحسن إدارة معارك إعلامية أو سياسية، لكنه يبقى محكومًا بعقدة الماضي وثقل الذاكرة اللبنانية. حلمه بالرئاسة هو باختصار “حلم ممنوع من الصرف”؛ مسجّل في دفاتر الطموحات، لكنه غير قابل للتحوّل إلى واقع، لا بميزان الداخل ولا بتوازنات الخارج.