ماذا يعني فوز زهران ممداني بالنسبة للمؤسسة التقليدية في الحزب الديمقراطي… ولترامب أيضاً؟
ماذا يعني فوز زهران ممداني بالنسبة للمؤسسة التقليدية في الحزب الديمقراطي… ولترامب أيضاً؟
علي منصور – ليبانغيت
لم يكن فوز زهران ممداني برئاسة بلدية مدينة نيويورك مجرّد تبدّل في اسم “العمدة” أو انتصار عابر لنجمٍ تقدّمي جديد , بل كان إشارة سياسية لحدوث تحوّل أعمق داخل الحزب الديمقراطي، وفي قلب واحدة من أهم المدن السياسية والإعلامية في العالم.
فممداني، الذي جاء من بيئة شعبية مهاجرة ومن خلفية سياسية يسارية ــ اجتماعية، لم يأتِ عبر مسارمُعبّد بصفقات السلطة و النفوذ ، ولم يُصقل على مقاس النخب والكارتيلات المالية ، بل جاء من الشارع مباشرةً. من الطلاب، العمال، الناشطين، الأحياء التي لطالما اعتُبرت “ملحقاً انتخابياً” بلا صوت مستقل.
هنا تكمن الصدمة بالنسبة للمؤسسة الديمقراطية التقليدية.
أولاً: ضربة للمؤسسة الحزبية
الحزب الديمقراطي ــ خصوصاً في نيويورك ــ اعتاد أن يختار المرشّح قبل أن يختاره الناخب من خلال:
– التمويل الحزبي
– دعم وسائل الإعلام المحلية
– شبكات المصالح
– علاقة الحزب بالنقابات الكبرى
لكن فوز ممداني أظهر أنّ هذه الشبكات لم تعد تملك قدرة الحسم أمام حملات شعبية منظّمة تعتمد على عمل ميداني واسع وتمويل جماهيري صغير Small Donations مصحوبة بخطاب واضح ضدّ الطبقية ما شكّل تحالف “شعبي” عابر للهويات.
هذا النموذج هو ذاته الذي حاول برني ساندرز إطلاقه عام 2016، لكنه فشل أمام تحالف المؤسسة الديمقراطية ضده. ما يحصل اليوم هو عودة مشروع ساندرز من القاعدة بدل القيادة.
ثانياً: هاجس “المؤسسة” التقليدية
لا تخشى المؤسسة الديمقراطية ممداني كشخص، بل تخشى المشروع الذي يستحضره إلى قلب الحزب. فظهوره يعيد طرح السؤال الذي حاولت القيادة الحزبية طمسه لسنوات: هل يبقى الحزب الديمقراطي حزب نخب المدن الكبرى، المرتبطة بوول ستريت وشبكات الإعلام والمال السياسي، أم يعود ليكون حزب العمّال والطلاب والطبقات المرهقة من عبء الحياة اليومية؟ إن اللغة التي يحملها ممداني تعيد فتح ملفات جرى تجميدها طويلاً، مثل فرض ضرائب على الثروة، والحد من نفوذ المال في الانتخابات، وتوسيع نظام الرعاية الصحية والاجتماعية، ومراجعة العلاقة العضوية بين الحزب والقطاع المالي. وهذه قضايا تُعتبر بمنزلة “خط أحمر” بالنسبة للمؤسسة التي شيّدت نفوذها منذ التسعينات على تحالفٍ متين مع رأس المال. لذلك يبدو فوز ممداني أشبه بمحاولة لإعادة تعريف الحزب نفسه: من يكتب برنامجه؟ ولمن يُصاغ القرار السياسي؟ للشعب وقضاياه… أم للنخبة ومصالحها؟
ثالثاً: ماذا يعني ذلك بالنسبة لترامب؟
قد يبدو الأمر متناقضاً، لكن فوز ممداني يحمل في طياته مكسباً ومصدر قلق في آن واحد بالنسبة لترامب. فمن جهة، يعمّق صعود التيار التقدّمي الانقسام داخل الحزب الديمقراطي بين المؤسسة التي تدير اللعبة وفق قواعدها القديمة، وبين قاعدة شعبية يسارية تشعر بأنها باتت تملك صوتاً وشرعية سياسية. هذا الانقسام يهدّد قدرة الحزب على تقديم خطاب موحّد في الاستحقاقات المقبلة، ويفتح الباب أمام ارتباك انتخابي يمكن لترامب استثماره بسهولة.
لكن في المقابل، يحمل مشروع ممداني خطراً فعلياً على الخطاب الذي بنى عليه ترامب حضوره السياسي. فممداني يعيد السياسة إلى جوهرها الاجتماعي ــ الاقتصادي، إلى سؤال من يملك ومن لا يملك، من يعمل ومن يتحكّم، وهو السؤال نفسه الذي نجح ترامب في الهروب منه لسنوات عبر تحويل النقاش إلى معارك الهوية والخوف والغريزة. ترامب قوي حين تكون السياسة مسرحاً للتوترات الثقافية، لكنه يضعف حين يصبح النقاش بين فقراء يطالبون بحقوقهم وأغنياء يحمون امتيازاتهم. وممداني، بخطابه الشعبي والاجتماعي الهادئ، يحاول جرّ النقاش بالضبط إلى هذا الميدان الذي لا يناسب ترامب ولا المؤسسة الديمقراطية معاً.
رابعاً: ماذا يعني ذلك للبنان والمنطقة؟
يحمل فوز ممداني دلالة تتجاوز حدود نيويورك. فالرجل معروف بموقفه الواضح ضد الحرب على غزة، وبانتقاده الصريح للسياسات الأميركية التي تغطي الاحتلال الإسرائيلي، كما أنه يعبّر باستمرار عن دعم حق الشعوب في تقرير مصيرها، ويدعو إلى خفض الإنفاق العسكري لصالح الاستثمار في الخدمات العامة. إذا اتسعت هذه المقاربة داخل الحزب الديمقراطي، فإن ذلك سيؤدي إلى كسر الاحتكار التقليدي للخطاب الإقليمي في واشنطن، ويفتح الباب أمام رؤية للشرق الأوسط أقل انحيازاً لإسرائيل وأكثر حساسية لقضايا الشعوب في الجنوب العالمي. هنا بالتحديد تكمن المخاوف العميقة لدى دوائر النفوذ الأميركي والإسرائيلي: فالأمر لا يتعلق بمركز واحد، بل باحتمال تغيّر تدريجي في المزاج السياسي الذي يحدد سياسات الولايات المتحدة في المنطقة.
فوز زهران ممداني ليس مجرّد نجاح انتخابي عابر، بل هو مؤشر على تحوّل عميق في توازنات الحزب الديمقراطي. فصعوده يعكس بداية تراجع قبضة المؤسسة التقليدية التي حكمت الحزب عبر شبكات المال والإعلام، ويعيد خطاب العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة إلى مقدّمة النقاش العام بعد عقود من التهميش المتعمّد. وفي الوقت نفسه، يشكّل هذا التحوّل إنذاراً مبكراً لترامب، لأن الملعب الذي بنى عليه خطابه الشعبوي ــ أي لعبة الهويات والخوف ــ قد يتحوّل إلى ساحة نقاش اقتصادي ـ اجتماعي مباشر بين امتيازات الميسورين وحقوق الفئات العاملة والطلاب وذوي الدخل المحدود.
بهذا المعنى، ما يجري اليوم داخل الحزب هو بداية معركة طويلة حول سؤال جوهري:
من يملك حق صياغة السياسة؟
هل تبقى حكراً على النخبة التي تضع البرامج وفق مصالحها؟
أم تعود إلى الناس الذين يعيشون يومياً نتائج هذه السياسات؟
نجاح ممداني لا يقدّم الإجابة النهائية على هذا السؤال، لكنه يعلن بصوت واضح أن المرحلة القديمة لم تعد قادرة وحدها على التحكم بالمستقبل.